أندريه ريمنيف Andrey Remnev

ريمنيف ليس مجرد فنان، بل شاهد صامت على أحلام الإنسان وأوهامه، يرسم وجوهًا تبدو وكأنها خرجت من الأساطير، لكنها في الواقع تحمل كل ما هو إنساني: الحيرة، العزلة، الحنين إلى شيء لم يوجد قط. إن لوحاته ليست مجرد ألوان وخطوط، بل هي كائنات معلقة بين السماء والأرض، بين الحلم واليقظة، كما لو أنها تستحضر أرواحًا قديمة لم تجد لها مكانًا في هذا العالم، فبقيت تحوم في فضاء لوحاته.

وربما، بنزعته الفلسفية، سيتساءل إن كان ريمنيف يرسم العالم كما هو، أم كما يجب أن يكون؟ هل ملامح شخصياته الناعمة تخفي صراخًا داخليًا، أم أنها تنتمي لعالم أكثر نقاءً مما عرفته البشرية؟ هل الطيور التي تطير في لوحاته رموز للحرية، أم أنها مجرد ظلال لأرواح تبحث عن خلاصها؟

إنه لا يرسم الجمال فحسب، بل يرسم الفكرة المختبئة خلف الجمال

بعض من مما راق لي من أعماله :

ما بعد العيد: الرتم الذي يعود دون استئذان

كأنّ شيئًا لم يكن !
هكذا يعود رتم الحياة بعد العيد، دون أن يطرق الباب أو يُمهل القلب كي يلتقط أنفاسه! تعود الأصوات اليومية بنبرتها المعتادة صوت الغلايّة / زفير الأجهز/  وقع الخطوات في الممر/ وضجيج المدن التي لا تأبه إن كنت قد احتفلت بالأمس أو مرّ بك حنين مفاجئ لصوت المفرقعات.

رمضان مرّ سريعًا هذا العام.
ربما لأنه كان في الغربة؟! أو لأننا نحاول في البعد أن نكثف المعنى ونعوض الغياب بالتفاصيل مثل فطور صغير نعدّه كأننا نستعد لاستقبال زوّار و دعوات هامسة آخر الليل، واتصالات متأخرة نحاول فيها أن نطمئن على من نحبّ دون أن نُظهر كم نشتاق.

في الغربة، لا يُعلَن العيد كما يُعلَن في الديار.
هنا نرتب ملابسنا بأنفسنا و نأخذ الصور لأنفسنا ونقنع الطفل الذي في داخلنا بأن هذا الفرح يكفي..! حتى وإن لم يطرق أحد الباب صباحًا ليقول “عيدكم مبارك“. ومع ذلك قضينا وقتاً جميلاً، ضحكنا على أشياء صغيرة، وتبادلنا التمر والشوكولاتة كما لو كان طقسًا عريقًا، وأطفأنا أنوار البيت قليلًا لنشعل قلوبنا بالونس.

في ليلة من ليالي رمضان، خرجت إلى السوق أبحث عن حلاوة “ماكنتوش”.
لي عادة قديمة مع هذه الحلوى لا أحب منها سوى نوعين تلك التي تكون بحشوة الفراولة و الأخرى بالبرتقال… تجولت طويلًا بين الرفوف قلّبت العلب، سألت البائع، وبحثت حتى ظننت أنني سأجد واحدة في جيب معطفي! لكنّها لم تكن هناك…. كأن المدينة كلّها نسيت هذا الطعم، أو كأن الغربة قررت أن تحرمنا من أشياء لا تُشترى فقط بل تُذكر.

ثم عاد الرتم.
عاد ليذكرنا أن الحياة رغم كل ما نفقده أو نشتاق إليه، لا تتوقف…! لكنها تمنحنا لحظات تتسلل وسط الانشغال و تهمس لنا بأن الذكرى لا تموت وأن الفرح وإن كان ناقصًا يبقى فرحًا…

وكُل عام و أنتم بخير .

– سيرين

أن تجد جذورك ممتدة في أرضٍ لا تلفظك/ أن تشعر أن الفكرة التي تؤمن بها تتسع لك/ أن يكون لك موطئ قدمٍ لا يتزلزل/ أن تكون برفقة شخصٌ لا تكون معه غريبًا، محيطٌ لا يجعلك تتساءل إن كنتَ فائضًا عن الحاجة.  أن تترسّخ دون أن تتقيد/ أن تتغير دون أن تضيع/ أن يكون لك مكانٌ تنتمي إليه دون أن يُغلق عليك.!

كلما أثقلني الضجر،! وجدتني أبعثر وحدتي في فراغٍ رقمي، أتركها كنداءٍ عابر رسالةً بلا اسم، أُرسلها وأنتظر! لا أحد بعينه بل أي عابرٍ يلتقطها..! كأنني أقف عند فوهة بئر، أرمي صوتي في العتمة، وأحبس أنفاسي في انتظار رجع الصدى..! وحين يعود! لا يكون صدى صوتي بل أصوات الآخرين، أسئلة بلا ملامح، فضولٌ مبهم، حوارات لا تبدأ ولا تنتهي، كأننا جميعًا عالقون في الفراغ ذاته، نلوّح لبعضنا من بعيد.

أجبت على أسئلة لا أعرف أصحابها، قرأتها وكأنها لي، تسربت إلى رأسي واستحالت أفكاري…! لم أعد أميّز إن كنت أردّ أم أفكر بصوت عالٍ..! تراكمت الأسئلة حتى صنعت في داخلي ضجيجًا، كأنني عقلٌ يحاول أن يصمت، وقلبٌ يأبى إلا أن يتكلم.

سونيا ألينز

سونيا ألينز (Sonia Alins) سيّدة الأحلام المائية..!  لا تكتفي برسم الجمال، بل تغمس أرواحنا معه في بحرٍ من الأثيريّة الحالمة، حيث تطفو الأجساد الرقيقة بين أمواج الشفافية، وتتهامس القصص في ظلال الألوان الناعمة.

نشأت هذه الفنانة الإسبانية وسط عوالم الفن، ودرست في أرقى المؤسسات الفنية، إلا أن موهبتها لم تحتج إلى شهادة لتثبت وجودها. بخطوطٍ أنثوية متقنة، وأسلوبٍ يذيب الحواجز بين الواقع والخيال، صنعت ألينز بصمة لا تخطئها عين. لوحاتها ليست مجرد صور، بل أبواب سرية تقودنا إلى عوالم غارقة في التأمل، تلتف حولها طبقات شفّافة كستائر الحلم، بينما تسبح شخصياتها في فضاءٍ يبدو مألوفًا ولكنه بعيد المنال.

قليلون هم الفنانون الذين يتقنون فن الإيحاء أكثر من الإفصاح، وها نحن نراقب بدهشة كيف تُخضع ألينز الريشة لرؤيتها الفريدة، وكأنها تكتب قصائدها بلون الماء والهواء.

بعض من أعمال سونيا :

أين يكمن السلام !

إن الإنسان في صراعه الأزلي مع ذاته ومع العالم من حوله، يجد نفسه في مواجهة خيارين دائمين التجاوز والتخطي. وهذان ليسا مترادفين كما قد يظن البعض! بل هما جوهران مختلفان ينبعان من أعماق النفس الإنسانية.

التخطي يا أعزّاء هو الفعل الذي نقوم به حين نجد أنفسنا أمام حاجز يبدو لنا أنه لا يمكن تجاوزه، فنكسره بعنف..! مدفوعين بضرورة البقاء أو تحقيق هدف ما. إنه فعل يحكمه العقل والظروف، ولكن ما أثقل هذا الحمل الذي نلقيه على ضمائرنا حين نتخطى شيئًا كان مقدسًا أو محرمًا! فالتخطي لا يخلو من شعور بالذنب، من الندم الذي يتسرب إلى نفوسنا بعد أن نحقق ما ظننا أنه خلاص.

أما التجاوز! فهو أسمى وأرقى… إنه التحرر من قيود النفس، من الأوهام التي تسجن أرواحنا التجاوز هو الصعود، هو الارتقاء فوق العالم المادي إلى مستوى أعلى من الفهم والقبول. التجاوز هو النظر إلى الأمور بعين الروح لا بعين الجسد. إنه السمو الذي نراه في أليوشا كارامازوف ذلك النور الداخلي الذي يقوده إلى الإيمان بالحب والرحمة رغم كل الشرور.

وفي هذا التفريق، أرى أن التخطي قد يؤدي إلى السقوط/ إلى الغرق في وحل الأخطاء، بينما التجاوز يرفعنا إلى آفاق أرحب، إلى الحرية الحقيقية و ما أشد صعوبة التجاوز! فهو يتطلب من الإنسان أن يتخلى عن ذاته، عن كبريائه، ليصل إلى الحقيقة.

فلتتأملوا أيها الأعزّاء في حياتكم كم مرة تخطيتم وكم مرة تجاوزتم؟ وهل وجدتم السلام في التخطي، أم أن السلام يكمن في التجاوز؟

عيوني المُرهقة

اليوم اكتشفت أن عيوني بحاجة إلى نظارات تساعدني على رؤية الأشياء بوضوح كالحروف التي تبعد عني مترًا أو حتى شبرين/ اللوحات في الطريق/ الصور المليئة بالألوان…..كل شيء أصبح ضبابيًا! حتى أنني لم أتمكن من قراءة أي شيء اليوم، فقررت تجربة الاستماع إلى كتاب صوتي عبر أحد التطبيقات كنت متحمسة جدًا،! لدرجة أنني دفعت اشتراك الشهر الأول ههههه.

بدأت بالاستماع إلى رواية “الأبله” لـ ديستويفسكي، التي قرأتها منذ زمن وأردت أن أستمتع بها مرة أخرى. أعجبني أسلوب القارئ في الإلقاء ووضوح نطقه، وكنت أتمنى لو استطعت الاستماع إليها بينما أعمل في المنزل لكن الوضع يشبه كما لو كنت أقرأ يجب أن أكون في مكان هادئ ولدي وقت فراغ طويل < “افتقدته هذا الوقت منذ زمن طويل”  كيف يمكن أن تستمتع بكتاب وأنت محاط بالفوضى؟ يبدو أن لا شيء يفوق متعة القراءة الفعلية، حيث تنغمس في كل تفصيل وكلمة .

وهكذا، وجدت نفسي في صراع بين متطلبات الحياة اليومية وعيوني المُرهقة والضعيفة ورغبتي في الانغماس في الكتب التي تمنحني بعضًا من السكينة.

فات الأوان !

إن الالتفاتة التي تأتي بعد فوات الأوان مهما بدت صادقة أو عميقة، لا يمكن أن تلامس قلبي الذي اعتاد الصمت بعد أن أرهقته الانتظارات الطويلة.
نحن في أعماقنا كائنات متعطشة للحظات صادقة تأتي في أوانها، و للحضور الذي يأتي حين نحتاج إليه ..! الكلمات التي تُقال بعد مرور مدّة من الزمن ليست سوى أصداء خافتة، تُسمَع لكنها لا تُحَس..! تلك الكلمات مهما كانت منتقاة أو مشبعة بالعاطفة، تفقد ثقلها عندما تصل متأخرة! وكأنها عبء آخر يُلقى على كاهل القلب بدلًا من أن تكون بلسمًا لجراحه.

وبالنسبة للاعتذار المتأخر! الذي يصل بعد أن تنطفئ الأضواء ويُغلق المسرح، فإنه يطفو على سطح القلب و لا يملك من القوة ما يكفي ليغوص في الأعماق .
إن ما ينطق به الإنسان حين يكون وقته قد انقضى، ليس إلا همسًا يتلاشى في الفراغ إنه صوت بلا صدى، خالٍ من الأثر الذي كان يمكن له أن يتركه لو قيل في اللحظة الصحيحة! لأن الكلمات مثل الأفعال ترتبط بزمانها ومكانها، ولا تُجدي نفعًا إذا انفصلت عن ذلك السياق الذي يمنحها قيمتها.

الحياة قصيرة…/ والزمن لا يرحم، وما يضيع منا من فرص للتعبير أو للتصحيح لا يعود…! لذلك ليست المسألة في القول أو الفعل! بل في التوقيت، أن تكون حاضرًا حين تحتاجك القلوب، أن تنطق حين تكون الكلمة علاجًا، وأن تبادر حين تكون المبادرة حياة ..! هذا هو الاختبار الحقيقي الذي قلّما نجتازه وقلما يغفره الزمن.

أثر لا يُنسى ١

من أعماق نفسي المتأملة والرافضة لكل ما يثقل الروح …! في عالم يمتلئ بالأصوات والآراء لطالما شعرت بأن النقد، سواء كان بنّاءً أو عكس ذلك، يحمل معه وزنًا أثقل مما يمكن لروحي تحمله. لا أقول ذلك بدافع التذمر، وإنما هو شعور عميق يرافقني منذ زمن بعيد، ربما منذ الطفولة التي لم تخلُ من التعليقات والتحليلات التي علّمتني أن أتجنب أي شكل من أشكال النقد.

لطالما كنت أرى أن الكلمات، وإن قيلت بحسن نية، تملك قوة يصعب محوها. إنها تترك بصماتها على الروح، تتراكم ببطء حتى يصبح من الصعب تجاهلها. بالنسبة لي، النقد ليس مجرد كلمات تُقال وتنتهي..! إنها لحظة تعيدني إلى ذلك الطفل الصغير الذي كان يحاول جاهدًا إرضاء الجميع، دون أن يجد سبيلًا إلى الراحة.

ربما لهذا السبب لم أستطع ولن أستطيع، التعايش مع النقد! شعوري تجاهه ليس سوى انعكاس لتجربة طويلة جعلتني أراه كجدارٍ باردٍ يقف بيني وبين إحساسي بالسلام..! حتى عندما يُقال لي إن النقد يُقصد به البنّاء، لا أجد نفسي أراه كذلك. لأن البناء الذي يأتي مصحوبًا بالألم، ليس بناءً أبحث عنه أو أحتاجه.

قد يكون الحل بالنسبة لي هو الابتعاد عن كل ما يُحتمل أن يُطلق كلمات نقدية. ربما هو اختيار البقاء في مساحة من الهدوء، حيث لا تحتاج روحي إلى الدفاع عن نفسها أو تفسير أسبابها.

وفي نهاية الأمر، لكل منا طريقته في التعايش مع العالم./ أما أنا، فقد اخترت طريق السلام مع نفسي، ولو كان ذلك يعني الابتعاد عن مواجهة النقد تمامًا.

فوق كل شيء، لا تكذب على نفسك !فالإنسان الذي يكذب على نفسه، ثم يصغي إلى كذبه، يصل إلى حد لا يعود فيه قادرًا على أن يميز الحقيقة، لا في داخله ولا فيما حوله. وهكذا، يفقد احترامه لنفسه، وللناس من حوله. ومع غياب الاحترام، يختفي الحب.

 

_ دوستويفسكي

حُمّى ..!

وكأنها زائر ثقيل يحلّ بلا دعوة، تسللت الإنفلونزا إلى الجسد كمتآمر ماهر، خادعة، ومتخفية بين صفوف أيامنا المعتادة..! ما إن تشعر بأنك سيد اللحظة، حاملاً عبء العالم وكأنك قادر على تسطير مجده، حتى يأتي هذا الدخيل ليكشف لك كم أنت ضعيف أمام بساطة المرض. هي ليست مجرد آلام في العضلات أو أنف يقطر بلا استئذان…! هي مرآةٌ لما نخفيه عن أنفسنا، إنها تجعل العقل يضطرب، والأفكار تتحول إلى متاهة ضبابية لا خروج منها. هل هو الحمى الذي يعبث بوعيك؟ أم ذلك الإحساس بالوهن الذي يُظهر لنا فجأة كم كنا نحتاج إلى الراحة، إلى الاعتراف بضعفنا؟

ثم تأتي العزلة..! هذا الحكم الذي تفرضه الإنفلونزا بلا محاكمة تجلس وحيدًا، تسمع أصوات الصمت من حولك، وتبدأ أفكارك في التجمع كحشد غاضب…! تسأل نفسك! ما قيمة كل ما نركض خلفه؟ لماذا نبني طموحاتنا على صحة هشّة، قادرة على الانهيار أمام فيروس لا يرى بالعين المجردة؟

لكن، وكما يحدث في كل شيء في الحياة، يأتي الشفاء كإشارة إلى أن الألم لم يكن إلا مؤقتًا وكأن المرض قد أعطانا فرصة لإعادة النظر في ذواتنا، لنعرف أن القوة الحقيقية ليست في مقاومة المرض، بل في تقبله، والاعتراف بأننا بشر، وأن الضعف جزءٌ من جوهر وجودنا.

هذه تدوينة كتبتها بعد أن قاومت المَرض بكُل ما أوتيت من قوّة !

أراكم لاحقاً .