الأم التي تصنع يديها من الكلمات !

عندما رأيت هذه اللوحة غصصت لا أعرف ماذا أقول ربما وجدت نفسي مكان هذه الأم وهذا الطفل هو طفلي الأول، وكان يجب أن أكتب أن الأُم لا تحتاج إلى يدين كي تحتضن طفلها، فالعينان تكفيان، والصوت الممتلئ بحنانٍ خام، و الركبتان المنغرستان في الأرض كجذور لا تهتز. الأمومة فيض لا يُقاس بالأطراف، بل بالقدرة على الوقوف رغم النقص، على الانحناء دون أن ينكسر العمود الفقري للروح.

الطفل يقف هناك، بملابس مرتبة و بوجه بريء لا يعرف ماذا ينقص أمه، أو ربما يعرف لكنه لا يراه نقصًا…! فالأطفال لا يرون العجز بالطريقة التي يراها الكبار، هم لا يطلبون من الأمهات إلا أن يكونوا هناك، بكامل وجودهم، بكامل أصواتهم، بكامل حضورهم الصامت والمستمر.

هذه اللوحة ليست مجرد مشهد، إنها سردية كاملة تختصر كيف تمنح الأمهات أبناءهن كل ما لديهن حتى لو فقدن أجزاءهن في الطريق، إنها اليد التي تنقص، لكنها تمتد في كل نظرة، في كل كلمة، في كل لحظة حوار صامت بين جيلين، أحدهما يعطي دون حساب، والآخر يجهل أنه يومًا ما قد يصبح هذا العطاء جزءًا لا يتجزأ من ذاكرته.

اللوحة لـ Gérard DuBois . 

سلامة الأسفار !

يصل المسافر فينهض له المكان، وتستيقظ الأبواب والنوافذ التي غفت منذ رحيله. يلتفت القادم من سفره، يملأ عينيه بالمشهد الذي تركه خلفه، فلا شيء تغيّر إلا ذلك الشعور الطفيف الذي يُنبئه أن الوقت مضى وأنه غاب..! وقبل أن يسأل عن الحال و أيضاً قبل أن يرخي جسده من عناء الطريق، يجد عبارة تأتيه كهدية غير متوقعة “سلامة الأسفار”!

عبارةٌ لا تتعجل الترحيب و لا تفيض بالمبالغة!! لكنها حنونة بما يكفي لتلتف حول الروح مثل غطاء دافئ. لا تقول فقط “حمدًا لله على السلامة”، بل تمتد قليلاً أبعد من ذلك، كأنها تُبارك الرحلة نفسها و تقرّ بأنها كانت ضرورية، وتحتفي بها كما تحتفي بسلامة العائد.

أحب هذه العبارة، أحب وقعها حين أسمعها، وأحب نبرتي حين أقولها. فيها شيء قديم، شيء يشبه ما نختزنه في الذاكرة دون أن نعرف كيف وصل إلينا…! وحين أتساءل عن أصلها، لا أجد جوابًا شافيًا: هل جاءت من نجد؟ من الحجاز أو الجنوب؟! أم أنها تسللت بين الديار حتى صارت للجميع؟ لا يهم…! ما يهم أنني كلما سمعتها شعرت بأن أحدًا يُربّت على قلبي برفق، كأنها جزء من تقاليد لم تُكتب، لكنها حيّة، تنتقل بين الناس كما ينتقل الضوء في الأزقة الضيقة وقت العصر.

“سلامة الأسفار”  جملة قصيرة، لكنها تحمل في طياتها السفر كله، بتعبه وأشواقه وأمانيه، ثم تضعه بلطف على العتبة، كأنها تقول: لقد عدت، وكل شيء بخير.

أُم.

هذه ليست مجرد أمّ، بل هي الجسر الوحيد بين الطفولة والعالم، الجدار الذي يُتَسَلَّقُ بالحاجة والخوف والرغبة في البقاء قريبًا من الدفء الأول..! في صعود الأطفال إليها، ليس ثمة استعجال، بل يقينٌ غريزيّ بأن الأم هي الوجهة الأبدية، وإنْ بدت في عيونهم قمّةً عالية.

( اللوحة لـ Brian Kershisnik )

سجني الناعم

يقول شمس الدين التبريزي: “إن المرء مع من لا يفهمه سجين.” لا أدري كيف غاب عني أن السجون ليست دائمًا قضبانًا باردة وجدرانًا عالية..! بعضها يُشيَّد من صمتٍ متواطئ، من أحاديث تدور في الفراغ دون أن تمسّني، و من وجوه مألوفة لا تعكسني.

عشرة أعوام وأنا أتحرك داخل قاعة واسعة، لكن حدودها لا تتجاوز تلك الأسئلة اليومية التي لا تنتظر إجابة: ماذا طبختِ اليوم؟ هل شاهدتِ المباراة؟أسئلةٌ لا تُطرح للمعرفة،! بل لإبقاء الهواء دافئًا/ لإشغال الوقت الفائض عن الحاجة. وأنا…! أقف هناك و أجيب بنصف صوت أو أبتسم .

الوحدة ليست أن تكون وحيدًا، بل أن تكون محاطًا بأشخاص لا يسمعون/ لا يرون/ يعتقدون أن الحياة محض تبادل كلامٍ يُستهلك قبل أن يُقال.. يظنّون أن السؤال عن الطقس حديث، وأن وصفةً جديدة للقهوة كفيلة بأن تمنح يومهم معنى.

لكنني تعلّمت أن السجين الجيد لا يركض باتجاه الجدار محاولًا هدمه،! بل يحوّله إلى نافذةٍ يرى منها بعيدًا، حيث الحياة أكثر اتساعًا…! هكذا أتقنتُ دور الحاضر الغائب أرفع الفنجان إلى شفتي كما يفعلون، أتابع حديثهم كما لو أنني هناك، ثم أعود إلى سجني الناعم، حيث لي وحدي حق الفهم والنجاة.

العين أم القلب؟

تساءلت بيني وبين نفسي: هل العين هي من تحب، أم القلب؟ أم أن العين تتآمر مع القلب في الخفاء، فتقوده قسرًا إلى حب من اختارته؟

ربما الحب لا يبدأ حيث نعتقد..! بل يتسلل ببطء دون إذن و دون وعي. قد تلتقي العين بشخص ما، فتقف عنده لحظة! مجرد لحظة عابرة لكنها كافية لزرع بذرة تنمو في الأعماق حتى تصير شجرة لا تُقتلع…! ترى العين فينقبض القلب، ثم يتوهم أنه اختار! لكنه لم يختر شيئًا، بل سيق إلى مصيره كما يُساق السجين إلى زنزانته، مقتنعًا أن خطواته ملكه، بينما هي في الحقيقة محددة سلفًا.

لكن ماذا لو لم تكن العين سوى مرآة تعكس ما يريد القلب أن يراه؟ ماذا لو كان الحب يسكن في الداخل منذ زمن، يبحث فقط عن صورة خارجية يتجسد فيها؟ أليس من الممكن أن الإنسان لا يحب ما يراه، بل يرى ما يحب؟

ثم، إن كانت العين هي التي تختار، فلماذا لا تستطيع التراجع؟ لماذا تبقى بعض الصور محفورة في الذاكرة حتى بعد أن تغيب عن البصر؟ لماذا يعود الوجه نفسه رغم مرور الزمن، رغم محاولات النسيان، وكأنه لم يغادر أبدًا؟

أهو القلب إذًا؟ أم أن هناك شيئًا أعمق، شيئًا يتجاوز العين والقلب معًا، شيئًا يسحبنا نحو أشخاص بعينهم، دون منطق، دون تفسير، كما لو أن الحياة بأسرها ليست إلا سلسلة من المصادفات المرسومة بإحكام؟