كان يعرف كيف يدخل دون أن يُحدث صوتًا. حتى نواياه كانت ترتدي نعالًا خفيفة. يبتسم بطريقة تُشبه العتاب، ويتحدث كما لو أنه يعتذر عن شيء لم يحدث بعد. في البداية تظنه طيبًا، أو على الأقل تظنه منشغلًا بنفسه، لكن بعد أيام تبدأ الأشياء حوله بالذبول، كما لو أن حضوره سحب منها الأوكسجين.
الخبيث لا يصرخ، ولا يخطئ أمام الناس. هو دقّة في الصوت، تأخر بسيط في الرد، نظرة عابرة تُعيد ترتيبك من الداخل. لا يُمسك عليه شيء، لكنه يُخلّف أثرًا يُشبه البرد حين يدخل من نافذة مغلقة.
ذات مساء، أدركتُ أن الشر لا يحتاج إلى أنياب. يكفي أن يمرّ قربك، ويتركك تبرّر ما حدث وكأنك من صنعته.
اخترت أن يمثل هذا النص، طير البومة! لأن في عينيها شيئًا من فطنته، ذلك البريق الذي لا يُفرّق بين الحكمة والخبث .
كأنّ رأسي محشورٌ في إبريقٍ زجاجيٍّ أزرق. كلّ شيءٍ من حولي يتحرّك ببطءٍ غريب، كأن الزمن يمشي على أطرافه لئلا يوقظني من هذا الصمت الثقيل. أسمع الأصوات، لكنها بعيدة، كأنها تأتي من جهةٍ أخرى من الماء. أرى العالم، لكنه مائل قليلًا، مكسوّ بضبابٍ خفيف، وكأن بيني وبينه غشاءٌ من حزنٍ لا يُرى.
في الداخل هواءٌ قليل، ودوّامة من الأفكار تدور بلا مخرج. أحاول أن أتنفّس، أن أقول شيئًا، أن أمدّ يدي خارج الزجاج، لكن كلّ ما يخرج هو بخارٌ على الجدار الشفّاف. أمسحه بأصابعي فلا يزول. أدرك أنني أنا الضباب، وأنا الإبريق، وأنا الرأس المحشور في الزرقة.
مر وقت طويل… كأن الكتابة كانت تنتظرني خلف الباب بصبر، بينما كنت مشغولة بمحاولات اتخاذ قراراتي، تلك التي لم تُحسم أبدًا. تنقّلت بين فكرة وأخرى، بين مدينة وأخرى، بين غربة اخترتها بيدي وحياة اعتقدتُ أنني سأعتادها.
ثم عدت. عدت إلى الوطن، إلى الطرقات التي أحفظها عن ظهر قلب، إلى الروتين الذي كنت أهرب منه، وها هو الآن يحاصرني من جديد. أمارس تفاصيل الأيام كما لو أنني لم أغادرها يومًا، ومع ذلك شيء في الداخل لا يشبه الأمس.
العودة لم تكن خفيفة..! شيء من الحنين، وشيء من الكآبة، وشيء من التعب المتراكم. أفتقد المطر الذي لا يأتي. أفتقد الخضرة التي كانت تمسّد قلبي حين أحتاج. هنا السماء شحيحة، والتراب يعلو النوافذ أكثر من أن يُبلّلها.
أكتب اليوم لأضع قدمًا صغيرة على عتبة هذه الصفحة. أكتب لأذكّر نفسي أن العودة ممكنة، وأن الحنين لا يُشفى لكنه يُكتب
في عائلتي، لم تكن المرأة تستأذن الحياة، كانت تمضي فيها كأنها صاحبتها! تدبّر وتقوم مقام الجميع، تحسن التقدير ولا تتأخر عن الفعل… لا تطلب/ لا تنتظر/ ولا تلوّح بضعفٍ لم تعترف به يوماً. صارت تلك الصورة ميراثاً يُورّث..! لا مال فيه ولا ذهب، بل وصيّة من نوع آخر ” أن تكوني أنتِ الجميع، وأن تُخفي وجعكِ بابتسامة ثابتة”.
حين قررتُ أن أخرج من هذا الدور المكرر..! ، أن أختار الشريك لا العبء، كنت أظن أنني أخطّ مساراً جديداً، شيئاً يشبه الخلاص. لكنّه يعرف مُسبقاَ أنني من تلك العائلة، لم يرَ فيّ سوى امتداداً لها .. أعادني دون أن يدري ” أو ربما كان يدري ” إلى حيث بدأت النساء قبلي/ إلى الدور ذاته/ المشهد ذاته/ الملامح ذاتها.
و كل ما فعلته أنني عدت و صمتُّ بالطريقة نفسها التي صمتت بها من سبقنني. لكنني كنت أسمع ضجيج هذا الصمت في رأسي، وأشعر بثقله في ظهري! لم تكن العودة هزيمة، كانت أشبه بإعادة تمثيلٍ لمشهد قديم، يصفّق له الجميع لأنه مألوف، ولأن أحدًا لا يريد أن يراه يتغيّر.
في كل مرة كنت أضع فيها شيئًا في مكانه، أو أتدارك خطأ لم أرتكبه، أو أستبق انكسارًا كي لا يحدث، كنت أعرف أنني لا أعيش حياتي ! بل أُعيد تمثيلها، وكأنني وُجِدتْ كي لا تُهدم الصورة لا أكثر.!
لكنني اليوم أدوّن. أدوّن لأن الكتابة لا تُورّث ولأنها ولو للحظات تمنحني شكلاً آخر لا يشبه الميراث.! تمنحني اسماً لا تُرفق به وظيفة. وأحيانًا، يكفي أن أقول أنا ألاحظ كل شيء، لكنني لم أعد أقبل كل شيء.
ريمنيف ليس مجرد فنان، بل شاهد صامت على أحلام الإنسان وأوهامه، يرسم وجوهًا تبدو وكأنها خرجت من الأساطير، لكنها في الواقع تحمل كل ما هو إنساني: الحيرة، العزلة، الحنين إلى شيء لم يوجد قط. إن لوحاته ليست مجرد ألوان وخطوط، بل هي كائنات معلقة بين السماء والأرض، بين الحلم واليقظة، كما لو أنها تستحضر أرواحًا قديمة لم تجد لها مكانًا في هذا العالم، فبقيت تحوم في فضاء لوحاته.
وربما، بنزعته الفلسفية، سيتساءل إن كان ريمنيف يرسم العالم كما هو، أم كما يجب أن يكون؟ هل ملامح شخصياته الناعمة تخفي صراخًا داخليًا، أم أنها تنتمي لعالم أكثر نقاءً مما عرفته البشرية؟ هل الطيور التي تطير في لوحاته رموز للحرية، أم أنها مجرد ظلال لأرواح تبحث عن خلاصها؟
إنه لا يرسم الجمال فحسب، بل يرسم الفكرة المختبئة خلف الجمال
عندما رأيت هذه اللوحة غصصت لا أعرف ماذا أقول ربما وجدت نفسي مكان هذه الأم وهذا الطفل هو طفلي الأول، وكان يجب أن أكتب أن الأُم لا تحتاج إلى يدين كي تحتضن طفلها، فالعينان تكفيان، والصوت الممتلئ بحنانٍ خام، و الركبتان المنغرستان في الأرض كجذور لا تهتز. الأمومة فيض لا يُقاس بالأطراف، بل بالقدرة على الوقوف رغم النقص، على الانحناء دون أن ينكسر العمود الفقري للروح.
الطفل يقف هناك، بملابس مرتبة و بوجه بريء لا يعرف ماذا ينقص أمه، أو ربما يعرف لكنه لا يراه نقصًا…! فالأطفال لا يرون العجز بالطريقة التي يراها الكبار، هم لا يطلبون من الأمهات إلا أن يكونوا هناك، بكامل وجودهم، بكامل أصواتهم، بكامل حضورهم الصامت والمستمر.
هذه اللوحة ليست مجرد مشهد، إنها سردية كاملة تختصر كيف تمنح الأمهات أبناءهن كل ما لديهن حتى لو فقدن أجزاءهن في الطريق، إنها اليد التي تنقص، لكنها تمتد في كل نظرة، في كل كلمة، في كل لحظة حوار صامت بين جيلين، أحدهما يعطي دون حساب، والآخر يجهل أنه يومًا ما قد يصبح هذا العطاء جزءًا لا يتجزأ من ذاكرته.
أن تجد جذورك ممتدة في أرضٍ لا تلفظك/ أن تشعر أن الفكرة التي تؤمن بها تتسع لك/ أن يكون لك موطئ قدمٍ لا يتزلزل/ أن تكون برفقة شخصٌ لا تكون معه غريبًا، محيطٌ لا يجعلك تتساءل إن كنتَ فائضًا عن الحاجة. أن تترسّخ دون أن تتقيد/ أن تتغير دون أن تضيع/ أن يكون لك مكانٌ تنتمي إليه دون أن يُغلق عليك.!
كلما أثقلني الضجر،! وجدتني أبعثر وحدتي في فراغٍ رقمي، أتركها كنداءٍ عابر رسالةً بلا اسم، أُرسلها وأنتظر! لا أحد بعينه بل أي عابرٍ يلتقطها..! كأنني أقف عند فوهة بئر، أرمي صوتي في العتمة، وأحبس أنفاسي في انتظار رجع الصدى..! وحين يعود! لا يكون صدى صوتي بل أصوات الآخرين، أسئلة بلا ملامح، فضولٌ مبهم، حوارات لا تبدأ ولا تنتهي، كأننا جميعًا عالقون في الفراغ ذاته، نلوّح لبعضنا من بعيد.
أجبت على أسئلة لا أعرف أصحابها، قرأتها وكأنها لي، تسربت إلى رأسي واستحالت أفكاري…! لم أعد أميّز إن كنت أردّ أم أفكر بصوت عالٍ..! تراكمت الأسئلة حتى صنعت في داخلي ضجيجًا، كأنني عقلٌ يحاول أن يصمت، وقلبٌ يأبى إلا أن يتكلم.
سونيا ألينز (Sonia Alins) سيّدة الأحلام المائية..! لا تكتفي برسم الجمال، بل تغمس أرواحنا معه في بحرٍ من الأثيريّة الحالمة، حيث تطفو الأجساد الرقيقة بين أمواج الشفافية، وتتهامس القصص في ظلال الألوان الناعمة.
نشأت هذه الفنانة الإسبانية وسط عوالم الفن، ودرست في أرقى المؤسسات الفنية، إلا أن موهبتها لم تحتج إلى شهادة لتثبت وجودها. بخطوطٍ أنثوية متقنة، وأسلوبٍ يذيب الحواجز بين الواقع والخيال، صنعت ألينز بصمة لا تخطئها عين. لوحاتها ليست مجرد صور، بل أبواب سرية تقودنا إلى عوالم غارقة في التأمل، تلتف حولها طبقات شفّافة كستائر الحلم، بينما تسبح شخصياتها في فضاءٍ يبدو مألوفًا ولكنه بعيد المنال.
قليلون هم الفنانون الذين يتقنون فن الإيحاء أكثر من الإفصاح، وها نحن نراقب بدهشة كيف تُخضع ألينز الريشة لرؤيتها الفريدة، وكأنها تكتب قصائدها بلون الماء والهواء.
في منتصف قلبي! حيث يُفترض أن يسكن الدفء أشعر بانغراس شيءٍ يُشبه السِكّين، سكّين طويلة! لا أدري متى دخلت لكنني أراها بوضوح أراها بعينيّ المغمضتين أراها حين أتحسس روحي وأتحسسها هناك مغروسة بثبات لا تتحرك وكأنها جزء أصيل من قلبي وقد أصبحت من نسيجه!، لا أستطيع أن أسحبها لا أملك الجرأة! ولا أستطيع دفعها بعيدًا أظن قد نمت حولها شعيرات دموية احتضنتها أنسجة قلبي كما لو أنها تعلّمت التعايش معها أو لعلها استسلمت وماذا لو نزعتها ماذا لو تجرأت على انتزاعها هل سينزف قلبي حتى الفراغ أم سيبقى مكانها فجوة أبدية لا تلتئم..!!؟
أنا حزينة لكن بصمت ! فالحزن حين يصبح قديمًا يتشربه الجسد حتى العظم، يظهر على شكلي الخارجي كتوتّر مُزمن، و كضغط يضغط على روحي حتى يكاد يسحقها ! يظهر في نظراتي في نبضاتي في رعشة يديّ حين أظن أن لا أحد يراقب. لا يمكنني الهروب فأينما ذهبت أحملها معي هذه السكين ولا يمكنني البوح فاللغة نفسها تخذلني تقف عاجزة أمام ألم كهذا كأنها تصاب بالخرس أمام تلك السكين الطويلة..!
اليوم اكتشفت أن عيوني بحاجة إلى نظارات تساعدني على رؤية الأشياء بوضوح كالحروف التي تبعد عني مترًا أو حتى شبرين/ اللوحات في الطريق/ الصور المليئة بالألوان…..كل شيء أصبح ضبابيًا! حتى أنني لم أتمكن من قراءة أي شيء اليوم، فقررت تجربة الاستماع إلى كتاب صوتي عبر أحد التطبيقات كنت متحمسة جدًا،! لدرجة أنني دفعت اشتراك الشهر الأول ههههه.
بدأت بالاستماع إلى رواية “الأبله” لـ ديستويفسكي، التي قرأتها منذ زمن وأردت أن أستمتع بها مرة أخرى. أعجبني أسلوب القارئ في الإلقاء ووضوح نطقه، وكنت أتمنى لو استطعت الاستماع إليها بينما أعمل في المنزل لكن الوضع يشبه كما لو كنت أقرأ يجب أن أكون في مكان هادئ ولدي وقت فراغ طويل < “افتقدته هذا الوقت منذ زمن طويل” كيف يمكن أن تستمتع بكتاب وأنت محاط بالفوضى؟ يبدو أن لا شيء يفوق متعة القراءة الفعلية، حيث تنغمس في كل تفصيل وكلمة .
وهكذا، وجدت نفسي في صراع بين متطلبات الحياة اليومية وعيوني المُرهقة والضعيفة ورغبتي في الانغماس في الكتب التي تمنحني بعضًا من السكينة.