لا أعرف إن كان خبيثًا حقًا.!

كان يعرف كيف يدخل دون أن يُحدث صوتًا.
حتى نواياه كانت ترتدي نعالًا خفيفة.
يبتسم بطريقة تُشبه العتاب، ويتحدث كما لو أنه يعتذر عن شيء لم يحدث بعد.
في البداية تظنه طيبًا، أو على الأقل تظنه منشغلًا بنفسه، لكن بعد أيام تبدأ الأشياء حوله بالذبول، كما لو أن حضوره سحب منها الأوكسجين.

الخبيث لا يصرخ، ولا يخطئ أمام الناس.
هو دقّة في الصوت، تأخر بسيط في الرد، نظرة عابرة تُعيد ترتيبك من الداخل.
لا يُمسك عليه شيء، لكنه يُخلّف أثرًا يُشبه البرد حين يدخل من نافذة مغلقة.

ذات مساء، أدركتُ أن الشر لا يحتاج إلى أنياب.
يكفي أن يمرّ قربك، ويتركك تبرّر ما حدث وكأنك من صنعته.

اخترت أن يمثل هذا النص، طير البومة! لأن في عينيها شيئًا من فطنته، ذلك البريق الذي لا يُفرّق بين الحكمة والخبث .

كما لو أن اليوم انزلق دون أن يُسلّم عليّ

كان اليوم غريبًا…
كأنه مرّ من جانبي دون أن يلاحظني، كأنني كنت طيفًا في غرفة تنتظر أن يلتفت لها أحد.!

النهار قصير، يركض كأنه مستعجل من كل شيء، والليل! يا لطول هذا الليل, كأن الدقائق فيه تنام بين كل دقيقة ودقيقة.

أسهر حتى تلمسني نسمات هواء خفيفة، تربّت على كتفي وتقول: “اصبري، الشتاء قادم”!, وأنا أصدّقها كل مرة، أشتاق له كما لو أنني لم أعرفه من قبل، كأنه وعد لم يُوفَ به بعد.
كأنني سأراه هذه المرة بشكلٍ مختلف، أحبه بكل ما فيني , حتى إن جاءت معه شوكولاتة ساخنة تزيد وزني، لن ألوم نفسي .!
هذا الشتاء، أنا أحتاجه كاملًا، بثقله، ببرده، بشهيته المفتوحة.

أما اليوم , فقد حاولتُ أن أرتب كراكيب منزلي الصغير، رتبتها مساءً، واستيقظتُ فوجدتها تضحك عليّ. كأنها قررت أن تعود إلى حالتها السابقة عنادًا، أو ربما فقط عبثًا.

ولا أدري لماذا لم أعد أستطيع غسل الأواني دون صوت صاخب يملأ أذني..؟! سماعاتي تحميني من صوت “الواقع”،من رنين الزجاج، ومن فوضى الأفكار.

الأغاني العالية تشبهني مؤخرًا، ليست مرتبة، لكنها تؤدي المهمة ، تمحو التوتر، وتُغرق صحنًا بعد آخر .! وكأنها تقول لي: “ليست كل المعارك تحتاج صمتًا… بعضها يحتاج إيقاعًا”.

وهكذا مضى يومي، غريبًا، طويلًا، دافئ الشوق، مرتبك التفاصيل،
لكنه لي وأحبه كما هو.

إبريقٍ زجاجيٍّ أزرق .

كأنّ رأسي محشورٌ في إبريقٍ زجاجيٍّ أزرق.
كلّ شيءٍ من حولي يتحرّك ببطءٍ غريب، كأن الزمن يمشي على أطرافه لئلا يوقظني من هذا الصمت الثقيل.
أسمع الأصوات، لكنها بعيدة، كأنها تأتي من جهةٍ أخرى من الماء. أرى العالم، لكنه مائل قليلًا، مكسوّ بضبابٍ خفيف، وكأن بيني وبينه غشاءٌ من حزنٍ لا يُرى.

في الداخل هواءٌ قليل، ودوّامة من الأفكار تدور بلا مخرج.
أحاول أن أتنفّس، أن أقول شيئًا، أن أمدّ يدي خارج الزجاج، لكن كلّ ما يخرج هو بخارٌ على الجدار الشفّاف.
أمسحه بأصابعي فلا يزول.
أدرك أنني أنا الضباب، وأنا الإبريق، وأنا الرأس المحشور في الزرقة.

أعرفكِ.
عرفت عينيك قبل أن يُرسم هذا الضوء على جسدي.
كنتِ من حلم بي ذات مساء خريفي،
حين مللتِ كل الأجوبة.

أقف على الصدفة لا لأدلّك على الجمال،
بل لأقول إنني خرجت من شيء،
ولا أنتمي بعد لأي شيء.

لم أُولد من البحر كما قالت الأساطير،
بل من صمتٍ طويل، ومن رغبة أن أكون امرأة دون أن أُشرح أو أُمتدَح.
أنا لست رمزًا،
ولا استدعاءً للغواية،
أنا لحظة صدق.
وقفت هناك،
لأراكِ ترين نفسك، لا لتري جسدي.

لا تسألي: من هذه؟
اسألي: ماذا فيّ يشبهها؟

أعرف أنكِ تعبتِ من أن تكوني دائمًا “صورةً مناسبة”،
تُضاء جيدًا، وتُعلّق بإتقان.
لكن ما من أحدٍ سأل قلبك إن كان يريد ذلك.

في العزلة، وجدتُ أنني لا أحتاج جمهورًا،
ولا حتى خلاصًا.
يكفيني أن أكون شاهدةً على صمتي.

اكتبي، إن أردتِ،
لكن لا تكتبي عني.
اكتبي عن تلك اللحظة التي لم تقلقي فيها من نظرة أحد،
ووقفتِ كما أنتِ، لا أجمل، لا أنحف، لا أكثر حكمة.

ميراث لا يُكتب

في عائلتي، لم تكن المرأة تستأذن الحياة، كانت تمضي فيها كأنها صاحبتها! تدبّر وتقوم مقام الجميع، تحسن التقدير ولا تتأخر عن الفعل… لا تطلب/ لا تنتظر/ ولا تلوّح بضعفٍ لم تعترف به يوماً. صارت تلك الصورة ميراثاً يُورّث..! لا مال فيه ولا ذهب، بل وصيّة من نوع آخر ” أن تكوني أنتِ الجميع، وأن تُخفي وجعكِ بابتسامة ثابتة”.

حين قررتُ أن أخرج من هذا الدور المكرر..! ، أن أختار الشريك لا العبء، كنت أظن أنني أخطّ مساراً جديداً، شيئاً يشبه الخلاص. لكنّه يعرف مُسبقاَ أنني من تلك العائلة، لم يرَ فيّ سوى امتداداً لها .. أعادني دون أن يدري ” أو ربما كان يدري ” إلى حيث بدأت النساء قبلي/ إلى الدور ذاته/ المشهد ذاته/ الملامح ذاتها.

و كل ما فعلته أنني عدت و صمتُّ بالطريقة نفسها التي صمتت بها من سبقنني. لكنني كنت أسمع ضجيج هذا الصمت في رأسي، وأشعر بثقله في ظهري! لم تكن العودة هزيمة، كانت أشبه بإعادة تمثيلٍ لمشهد قديم، يصفّق له الجميع لأنه مألوف، ولأن أحدًا لا يريد أن يراه يتغيّر.

في كل مرة كنت أضع فيها شيئًا في مكانه، أو أتدارك خطأ لم أرتكبه، أو أستبق انكسارًا كي لا يحدث، كنت أعرف أنني لا أعيش حياتي ! بل أُعيد تمثيلها، وكأنني وُجِدتْ كي لا تُهدم الصورة لا أكثر.!

لكنني اليوم أدوّن.
أدوّن لأن الكتابة لا تُورّث ولأنها ولو للحظات تمنحني شكلاً آخر لا يشبه الميراث.! تمنحني اسماً لا تُرفق به وظيفة. وأحيانًا، يكفي أن أقول أنا ألاحظ كل شيء، لكنني لم أعد أقبل كل شيء.

مغاريف الكلام

في البادية لم تكن البلاغة شأنًا نحويًا ولا استعارةً تُنتزع من بطون الكتب، بل كانت فِطنةً تُقال كما تُولد الريح عارية وصادقة. قالوا عن العيون إنها مغاريف الكلام” وتلك وحدها جملة تكشف لنا خيانة اللغة حين تغطّي على نوايا الروح.. فالعين لا تتجمّل!! لا تُملي على نفسها ما لا تريده/ لا تتدرّب/ لا تُمثّل/ لا تنتحل صفات الآخرين،! إنها تقول ما لم يتقنه اللسان، أو ما تواطأ اللسان على طمسه.

كثيرًا ما نتورّط في سماع ما يُقال، ونغفل عن تلك المساحات التي تسكن بين النظر والسكوت، عن الارتباك في طرف الجفن، أو اتّساعه المفاجئ حين يمرّ اسمٌ كان يجب أن يُنسى. ما تقوله العيون لا يُترجم، بل يُفهم دفعةً واحدة، كخوف الطفل أو فرح الناجين من الحروب.

العيون إذًا … لا تُكذّب أحدًا!، بل ترفع الستارة عن المسرحية.! هي التي تُشفق عليك وأنت تنحت الأكاذيب، ثم تُعرّيك دون أن تصرخ.

عن العجز الذي يسكننا

لا نملك إلا أعينًا نفتحها على الصور! ثم نغلقها كي لا تفيض.
غزّة ليست نشرة إخبارية …! ولا مشهدًا يمرّ سريعًا في زمن العجالة.
غزّة هذه المرّة — كما في كل مرّة — تنهض من الركام لتدلّ علينا، لا لنتدلّى عليها بالبكاء.

لم نكن يومًا أبطالًا، نحن الذين نراقب من خلف الشاشات، نُطفئ الضوء عند اشتداد القصف ونترك لأرواحنا أن ترتجف. نحن العاديّون، غرباء في جغرافيا الخوف، نقول لأنفسنا: “ماذا بوسعنا أن نفعل؟” وكأنها جملة نُسكِت بها ضميرًا بدأ يعلو صوته.

هناك في الضفة الأخرى من هذا العالم، تتعثّر طفلة بين الحطام تبحث عن أمّ كانت تعدّ لها عشاء البارحة. و هناك امرأة تحمل في حضنها رضيعًا وتهمس له باسمٍ جديد اسم من غبار! كأنها تقول “ابقَ هنا، لا تذهب.”
وهناك مدينة صغيرة تُهدَم شوارعها ثم تُرسم من جديد في ذاكرة ساكنيها.

العجز ليس تبريرًا هو فقط مرايا نكسرها لئلا نرى وجوهنا في لحظة الخراب.
نكتب ! نعم ….  لعلّ الكتابة تشبه الصلاة لعلها تخفف شيئًا من وطأة أن نكون بشرًا لا يستطيعون سوى أن يشهدوا.

غزّة يا عروس التعب،
نحن لا نملك سلاحًا، ولا قوة، ولا سياسة.
نملك فقط قلوبًا ترتجف وأقلامًا نحاول بها أن نشهد،
لئلا يُقال إنّ أحدًا لم يَرَ،
ولم يسمع،
ولم يَبكِ.

– اللوحة لـ ميسرة بارود

ما بعد العيد: الرتم الذي يعود دون استئذان

كأنّ شيئًا لم يكن !
هكذا يعود رتم الحياة بعد العيد، دون أن يطرق الباب أو يُمهل القلب كي يلتقط أنفاسه! تعود الأصوات اليومية بنبرتها المعتادة صوت الغلايّة / زفير الأجهز/  وقع الخطوات في الممر/ وضجيج المدن التي لا تأبه إن كنت قد احتفلت بالأمس أو مرّ بك حنين مفاجئ لصوت المفرقعات.

رمضان مرّ سريعًا هذا العام.
ربما لأنه كان في الغربة؟! أو لأننا نحاول في البعد أن نكثف المعنى ونعوض الغياب بالتفاصيل مثل فطور صغير نعدّه كأننا نستعد لاستقبال زوّار و دعوات هامسة آخر الليل، واتصالات متأخرة نحاول فيها أن نطمئن على من نحبّ دون أن نُظهر كم نشتاق.

في الغربة، لا يُعلَن العيد كما يُعلَن في الديار.
هنا نرتب ملابسنا بأنفسنا و نأخذ الصور لأنفسنا ونقنع الطفل الذي في داخلنا بأن هذا الفرح يكفي..! حتى وإن لم يطرق أحد الباب صباحًا ليقول “عيدكم مبارك“. ومع ذلك قضينا وقتاً جميلاً، ضحكنا على أشياء صغيرة، وتبادلنا التمر والشوكولاتة كما لو كان طقسًا عريقًا، وأطفأنا أنوار البيت قليلًا لنشعل قلوبنا بالونس.

في ليلة من ليالي رمضان، خرجت إلى السوق أبحث عن حلاوة “ماكنتوش”.
لي عادة قديمة مع هذه الحلوى لا أحب منها سوى نوعين تلك التي تكون بحشوة الفراولة و الأخرى بالبرتقال… تجولت طويلًا بين الرفوف قلّبت العلب، سألت البائع، وبحثت حتى ظننت أنني سأجد واحدة في جيب معطفي! لكنّها لم تكن هناك…. كأن المدينة كلّها نسيت هذا الطعم، أو كأن الغربة قررت أن تحرمنا من أشياء لا تُشترى فقط بل تُذكر.

ثم عاد الرتم.
عاد ليذكرنا أن الحياة رغم كل ما نفقده أو نشتاق إليه، لا تتوقف…! لكنها تمنحنا لحظات تتسلل وسط الانشغال و تهمس لنا بأن الذكرى لا تموت وأن الفرح وإن كان ناقصًا يبقى فرحًا…

وكُل عام و أنتم بخير .

– سيرين

الأم التي تصنع يديها من الكلمات !

عندما رأيت هذه اللوحة غصصت لا أعرف ماذا أقول ربما وجدت نفسي مكان هذه الأم وهذا الطفل هو طفلي الأول، وكان يجب أن أكتب أن الأُم لا تحتاج إلى يدين كي تحتضن طفلها، فالعينان تكفيان، والصوت الممتلئ بحنانٍ خام، و الركبتان المنغرستان في الأرض كجذور لا تهتز. الأمومة فيض لا يُقاس بالأطراف، بل بالقدرة على الوقوف رغم النقص، على الانحناء دون أن ينكسر العمود الفقري للروح.

الطفل يقف هناك، بملابس مرتبة و بوجه بريء لا يعرف ماذا ينقص أمه، أو ربما يعرف لكنه لا يراه نقصًا…! فالأطفال لا يرون العجز بالطريقة التي يراها الكبار، هم لا يطلبون من الأمهات إلا أن يكونوا هناك، بكامل وجودهم، بكامل أصواتهم، بكامل حضورهم الصامت والمستمر.

هذه اللوحة ليست مجرد مشهد، إنها سردية كاملة تختصر كيف تمنح الأمهات أبناءهن كل ما لديهن حتى لو فقدن أجزاءهن في الطريق، إنها اليد التي تنقص، لكنها تمتد في كل نظرة، في كل كلمة، في كل لحظة حوار صامت بين جيلين، أحدهما يعطي دون حساب، والآخر يجهل أنه يومًا ما قد يصبح هذا العطاء جزءًا لا يتجزأ من ذاكرته.

اللوحة لـ Gérard DuBois . 

أن تجد جذورك ممتدة في أرضٍ لا تلفظك/ أن تشعر أن الفكرة التي تؤمن بها تتسع لك/ أن يكون لك موطئ قدمٍ لا يتزلزل/ أن تكون برفقة شخصٌ لا تكون معه غريبًا، محيطٌ لا يجعلك تتساءل إن كنتَ فائضًا عن الحاجة.  أن تترسّخ دون أن تتقيد/ أن تتغير دون أن تضيع/ أن يكون لك مكانٌ تنتمي إليه دون أن يُغلق عليك.!

كلما أثقلني الضجر،! وجدتني أبعثر وحدتي في فراغٍ رقمي، أتركها كنداءٍ عابر رسالةً بلا اسم، أُرسلها وأنتظر! لا أحد بعينه بل أي عابرٍ يلتقطها..! كأنني أقف عند فوهة بئر، أرمي صوتي في العتمة، وأحبس أنفاسي في انتظار رجع الصدى..! وحين يعود! لا يكون صدى صوتي بل أصوات الآخرين، أسئلة بلا ملامح، فضولٌ مبهم، حوارات لا تبدأ ولا تنتهي، كأننا جميعًا عالقون في الفراغ ذاته، نلوّح لبعضنا من بعيد.

أجبت على أسئلة لا أعرف أصحابها، قرأتها وكأنها لي، تسربت إلى رأسي واستحالت أفكاري…! لم أعد أميّز إن كنت أردّ أم أفكر بصوت عالٍ..! تراكمت الأسئلة حتى صنعت في داخلي ضجيجًا، كأنني عقلٌ يحاول أن يصمت، وقلبٌ يأبى إلا أن يتكلم.