عودة .

مر وقت طويل…
كأن الكتابة كانت تنتظرني خلف الباب بصبر، بينما كنت مشغولة بمحاولات اتخاذ قراراتي، تلك التي لم تُحسم أبدًا. تنقّلت بين فكرة وأخرى، بين مدينة وأخرى، بين غربة اخترتها بيدي وحياة اعتقدتُ أنني سأعتادها.

ثم عدت.
عدت إلى الوطن، إلى الطرقات التي أحفظها عن ظهر قلب، إلى الروتين الذي كنت أهرب منه، وها هو الآن يحاصرني من جديد. أمارس تفاصيل الأيام كما لو أنني لم أغادرها يومًا، ومع ذلك شيء في الداخل لا يشبه الأمس.

العودة لم تكن خفيفة..! شيء من الحنين، وشيء من الكآبة، وشيء من التعب المتراكم. أفتقد المطر الذي لا يأتي. أفتقد الخضرة التي كانت تمسّد قلبي حين أحتاج. هنا السماء شحيحة، والتراب يعلو النوافذ أكثر من أن يُبلّلها.

أكتب اليوم لأضع قدمًا صغيرة على عتبة هذه الصفحة. أكتب لأذكّر نفسي أن العودة ممكنة، وأن الحنين لا يُشفى لكنه يُكتب

ميراث لا يُكتب

في عائلتي، لم تكن المرأة تستأذن الحياة، كانت تمضي فيها كأنها صاحبتها! تدبّر وتقوم مقام الجميع، تحسن التقدير ولا تتأخر عن الفعل… لا تطلب/ لا تنتظر/ ولا تلوّح بضعفٍ لم تعترف به يوماً. صارت تلك الصورة ميراثاً يُورّث..! لا مال فيه ولا ذهب، بل وصيّة من نوع آخر ” أن تكوني أنتِ الجميع، وأن تُخفي وجعكِ بابتسامة ثابتة”.

حين قررتُ أن أخرج من هذا الدور المكرر..! ، أن أختار الشريك لا العبء، كنت أظن أنني أخطّ مساراً جديداً، شيئاً يشبه الخلاص. لكنّه يعرف مُسبقاَ أنني من تلك العائلة، لم يرَ فيّ سوى امتداداً لها .. أعادني دون أن يدري ” أو ربما كان يدري ” إلى حيث بدأت النساء قبلي/ إلى الدور ذاته/ المشهد ذاته/ الملامح ذاتها.

و كل ما فعلته أنني عدت و صمتُّ بالطريقة نفسها التي صمتت بها من سبقنني. لكنني كنت أسمع ضجيج هذا الصمت في رأسي، وأشعر بثقله في ظهري! لم تكن العودة هزيمة، كانت أشبه بإعادة تمثيلٍ لمشهد قديم، يصفّق له الجميع لأنه مألوف، ولأن أحدًا لا يريد أن يراه يتغيّر.

في كل مرة كنت أضع فيها شيئًا في مكانه، أو أتدارك خطأ لم أرتكبه، أو أستبق انكسارًا كي لا يحدث، كنت أعرف أنني لا أعيش حياتي ! بل أُعيد تمثيلها، وكأنني وُجِدتْ كي لا تُهدم الصورة لا أكثر.!

لكنني اليوم أدوّن.
أدوّن لأن الكتابة لا تُورّث ولأنها ولو للحظات تمنحني شكلاً آخر لا يشبه الميراث.! تمنحني اسماً لا تُرفق به وظيفة. وأحيانًا، يكفي أن أقول أنا ألاحظ كل شيء، لكنني لم أعد أقبل كل شيء.

مغاريف الكلام

في البادية لم تكن البلاغة شأنًا نحويًا ولا استعارةً تُنتزع من بطون الكتب، بل كانت فِطنةً تُقال كما تُولد الريح عارية وصادقة. قالوا عن العيون إنها مغاريف الكلام” وتلك وحدها جملة تكشف لنا خيانة اللغة حين تغطّي على نوايا الروح.. فالعين لا تتجمّل!! لا تُملي على نفسها ما لا تريده/ لا تتدرّب/ لا تُمثّل/ لا تنتحل صفات الآخرين،! إنها تقول ما لم يتقنه اللسان، أو ما تواطأ اللسان على طمسه.

كثيرًا ما نتورّط في سماع ما يُقال، ونغفل عن تلك المساحات التي تسكن بين النظر والسكوت، عن الارتباك في طرف الجفن، أو اتّساعه المفاجئ حين يمرّ اسمٌ كان يجب أن يُنسى. ما تقوله العيون لا يُترجم، بل يُفهم دفعةً واحدة، كخوف الطفل أو فرح الناجين من الحروب.

العيون إذًا … لا تُكذّب أحدًا!، بل ترفع الستارة عن المسرحية.! هي التي تُشفق عليك وأنت تنحت الأكاذيب، ثم تُعرّيك دون أن تصرخ.

أندريه ريمنيف Andrey Remnev

ريمنيف ليس مجرد فنان، بل شاهد صامت على أحلام الإنسان وأوهامه، يرسم وجوهًا تبدو وكأنها خرجت من الأساطير، لكنها في الواقع تحمل كل ما هو إنساني: الحيرة، العزلة، الحنين إلى شيء لم يوجد قط. إن لوحاته ليست مجرد ألوان وخطوط، بل هي كائنات معلقة بين السماء والأرض، بين الحلم واليقظة، كما لو أنها تستحضر أرواحًا قديمة لم تجد لها مكانًا في هذا العالم، فبقيت تحوم في فضاء لوحاته.

وربما، بنزعته الفلسفية، سيتساءل إن كان ريمنيف يرسم العالم كما هو، أم كما يجب أن يكون؟ هل ملامح شخصياته الناعمة تخفي صراخًا داخليًا، أم أنها تنتمي لعالم أكثر نقاءً مما عرفته البشرية؟ هل الطيور التي تطير في لوحاته رموز للحرية، أم أنها مجرد ظلال لأرواح تبحث عن خلاصها؟

إنه لا يرسم الجمال فحسب، بل يرسم الفكرة المختبئة خلف الجمال

بعض من مما راق لي من أعماله :

ما بعد العيد: الرتم الذي يعود دون استئذان

كأنّ شيئًا لم يكن !
هكذا يعود رتم الحياة بعد العيد، دون أن يطرق الباب أو يُمهل القلب كي يلتقط أنفاسه! تعود الأصوات اليومية بنبرتها المعتادة صوت الغلايّة / زفير الأجهز/  وقع الخطوات في الممر/ وضجيج المدن التي لا تأبه إن كنت قد احتفلت بالأمس أو مرّ بك حنين مفاجئ لصوت المفرقعات.

رمضان مرّ سريعًا هذا العام.
ربما لأنه كان في الغربة؟! أو لأننا نحاول في البعد أن نكثف المعنى ونعوض الغياب بالتفاصيل مثل فطور صغير نعدّه كأننا نستعد لاستقبال زوّار و دعوات هامسة آخر الليل، واتصالات متأخرة نحاول فيها أن نطمئن على من نحبّ دون أن نُظهر كم نشتاق.

في الغربة، لا يُعلَن العيد كما يُعلَن في الديار.
هنا نرتب ملابسنا بأنفسنا و نأخذ الصور لأنفسنا ونقنع الطفل الذي في داخلنا بأن هذا الفرح يكفي..! حتى وإن لم يطرق أحد الباب صباحًا ليقول “عيدكم مبارك“. ومع ذلك قضينا وقتاً جميلاً، ضحكنا على أشياء صغيرة، وتبادلنا التمر والشوكولاتة كما لو كان طقسًا عريقًا، وأطفأنا أنوار البيت قليلًا لنشعل قلوبنا بالونس.

في ليلة من ليالي رمضان، خرجت إلى السوق أبحث عن حلاوة “ماكنتوش”.
لي عادة قديمة مع هذه الحلوى لا أحب منها سوى نوعين تلك التي تكون بحشوة الفراولة و الأخرى بالبرتقال… تجولت طويلًا بين الرفوف قلّبت العلب، سألت البائع، وبحثت حتى ظننت أنني سأجد واحدة في جيب معطفي! لكنّها لم تكن هناك…. كأن المدينة كلّها نسيت هذا الطعم، أو كأن الغربة قررت أن تحرمنا من أشياء لا تُشترى فقط بل تُذكر.

ثم عاد الرتم.
عاد ليذكرنا أن الحياة رغم كل ما نفقده أو نشتاق إليه، لا تتوقف…! لكنها تمنحنا لحظات تتسلل وسط الانشغال و تهمس لنا بأن الذكرى لا تموت وأن الفرح وإن كان ناقصًا يبقى فرحًا…

وكُل عام و أنتم بخير .

– سيرين

الأم التي تصنع يديها من الكلمات !

عندما رأيت هذه اللوحة غصصت لا أعرف ماذا أقول ربما وجدت نفسي مكان هذه الأم وهذا الطفل هو طفلي الأول، وكان يجب أن أكتب أن الأُم لا تحتاج إلى يدين كي تحتضن طفلها، فالعينان تكفيان، والصوت الممتلئ بحنانٍ خام، و الركبتان المنغرستان في الأرض كجذور لا تهتز. الأمومة فيض لا يُقاس بالأطراف، بل بالقدرة على الوقوف رغم النقص، على الانحناء دون أن ينكسر العمود الفقري للروح.

الطفل يقف هناك، بملابس مرتبة و بوجه بريء لا يعرف ماذا ينقص أمه، أو ربما يعرف لكنه لا يراه نقصًا…! فالأطفال لا يرون العجز بالطريقة التي يراها الكبار، هم لا يطلبون من الأمهات إلا أن يكونوا هناك، بكامل وجودهم، بكامل أصواتهم، بكامل حضورهم الصامت والمستمر.

هذه اللوحة ليست مجرد مشهد، إنها سردية كاملة تختصر كيف تمنح الأمهات أبناءهن كل ما لديهن حتى لو فقدن أجزاءهن في الطريق، إنها اليد التي تنقص، لكنها تمتد في كل نظرة، في كل كلمة، في كل لحظة حوار صامت بين جيلين، أحدهما يعطي دون حساب، والآخر يجهل أنه يومًا ما قد يصبح هذا العطاء جزءًا لا يتجزأ من ذاكرته.

اللوحة لـ Gérard DuBois . 

أن تجد جذورك ممتدة في أرضٍ لا تلفظك/ أن تشعر أن الفكرة التي تؤمن بها تتسع لك/ أن يكون لك موطئ قدمٍ لا يتزلزل/ أن تكون برفقة شخصٌ لا تكون معه غريبًا، محيطٌ لا يجعلك تتساءل إن كنتَ فائضًا عن الحاجة.  أن تترسّخ دون أن تتقيد/ أن تتغير دون أن تضيع/ أن يكون لك مكانٌ تنتمي إليه دون أن يُغلق عليك.!

كلما أثقلني الضجر،! وجدتني أبعثر وحدتي في فراغٍ رقمي، أتركها كنداءٍ عابر رسالةً بلا اسم، أُرسلها وأنتظر! لا أحد بعينه بل أي عابرٍ يلتقطها..! كأنني أقف عند فوهة بئر، أرمي صوتي في العتمة، وأحبس أنفاسي في انتظار رجع الصدى..! وحين يعود! لا يكون صدى صوتي بل أصوات الآخرين، أسئلة بلا ملامح، فضولٌ مبهم، حوارات لا تبدأ ولا تنتهي، كأننا جميعًا عالقون في الفراغ ذاته، نلوّح لبعضنا من بعيد.

أجبت على أسئلة لا أعرف أصحابها، قرأتها وكأنها لي، تسربت إلى رأسي واستحالت أفكاري…! لم أعد أميّز إن كنت أردّ أم أفكر بصوت عالٍ..! تراكمت الأسئلة حتى صنعت في داخلي ضجيجًا، كأنني عقلٌ يحاول أن يصمت، وقلبٌ يأبى إلا أن يتكلم.

سونيا ألينز

سونيا ألينز (Sonia Alins) سيّدة الأحلام المائية..!  لا تكتفي برسم الجمال، بل تغمس أرواحنا معه في بحرٍ من الأثيريّة الحالمة، حيث تطفو الأجساد الرقيقة بين أمواج الشفافية، وتتهامس القصص في ظلال الألوان الناعمة.

نشأت هذه الفنانة الإسبانية وسط عوالم الفن، ودرست في أرقى المؤسسات الفنية، إلا أن موهبتها لم تحتج إلى شهادة لتثبت وجودها. بخطوطٍ أنثوية متقنة، وأسلوبٍ يذيب الحواجز بين الواقع والخيال، صنعت ألينز بصمة لا تخطئها عين. لوحاتها ليست مجرد صور، بل أبواب سرية تقودنا إلى عوالم غارقة في التأمل، تلتف حولها طبقات شفّافة كستائر الحلم، بينما تسبح شخصياتها في فضاءٍ يبدو مألوفًا ولكنه بعيد المنال.

قليلون هم الفنانون الذين يتقنون فن الإيحاء أكثر من الإفصاح، وها نحن نراقب بدهشة كيف تُخضع ألينز الريشة لرؤيتها الفريدة، وكأنها تكتب قصائدها بلون الماء والهواء.

بعض من أعمال سونيا :

سكّين طويلة!

في منتصف قلبي! حيث يُفترض أن يسكن الدفء أشعر بانغراس شيءٍ يُشبه السِكّين، سكّين طويلة! لا أدري متى دخلت لكنني أراها بوضوح أراها بعينيّ المغمضتين أراها حين أتحسس روحي وأتحسسها هناك مغروسة بثبات لا تتحرك وكأنها جزء أصيل من قلبي وقد أصبحت من نسيجه!، لا أستطيع أن أسحبها لا أملك الجرأة! ولا أستطيع دفعها بعيدًا أظن قد نمت حولها شعيرات دموية احتضنتها أنسجة قلبي كما لو أنها تعلّمت التعايش معها أو لعلها استسلمت وماذا لو نزعتها ماذا لو تجرأت على انتزاعها هل سينزف قلبي حتى الفراغ أم سيبقى مكانها فجوة أبدية لا تلتئم..!!؟

أنا حزينة لكن بصمت ! فالحزن حين يصبح قديمًا يتشربه الجسد حتى العظم، يظهر على شكلي الخارجي كتوتّر مُزمن، و كضغط يضغط على روحي حتى يكاد يسحقها ! يظهر في نظراتي في نبضاتي في رعشة يديّ حين أظن أن لا أحد يراقب. لا يمكنني الهروب فأينما ذهبت أحملها معي هذه السكين ولا يمكنني البوح فاللغة نفسها تخذلني تقف عاجزة أمام ألم كهذا كأنها تصاب بالخرس أمام تلك السكين الطويلة..!

وهكذا أعيش أو أقاوم الحياة لا فرق.

أين يكمن السلام !

إن الإنسان في صراعه الأزلي مع ذاته ومع العالم من حوله، يجد نفسه في مواجهة خيارين دائمين التجاوز والتخطي. وهذان ليسا مترادفين كما قد يظن البعض! بل هما جوهران مختلفان ينبعان من أعماق النفس الإنسانية.

التخطي يا أعزّاء هو الفعل الذي نقوم به حين نجد أنفسنا أمام حاجز يبدو لنا أنه لا يمكن تجاوزه، فنكسره بعنف..! مدفوعين بضرورة البقاء أو تحقيق هدف ما. إنه فعل يحكمه العقل والظروف، ولكن ما أثقل هذا الحمل الذي نلقيه على ضمائرنا حين نتخطى شيئًا كان مقدسًا أو محرمًا! فالتخطي لا يخلو من شعور بالذنب، من الندم الذي يتسرب إلى نفوسنا بعد أن نحقق ما ظننا أنه خلاص.

أما التجاوز! فهو أسمى وأرقى… إنه التحرر من قيود النفس، من الأوهام التي تسجن أرواحنا التجاوز هو الصعود، هو الارتقاء فوق العالم المادي إلى مستوى أعلى من الفهم والقبول. التجاوز هو النظر إلى الأمور بعين الروح لا بعين الجسد. إنه السمو الذي نراه في أليوشا كارامازوف ذلك النور الداخلي الذي يقوده إلى الإيمان بالحب والرحمة رغم كل الشرور.

وفي هذا التفريق، أرى أن التخطي قد يؤدي إلى السقوط/ إلى الغرق في وحل الأخطاء، بينما التجاوز يرفعنا إلى آفاق أرحب، إلى الحرية الحقيقية و ما أشد صعوبة التجاوز! فهو يتطلب من الإنسان أن يتخلى عن ذاته، عن كبريائه، ليصل إلى الحقيقة.

فلتتأملوا أيها الأعزّاء في حياتكم كم مرة تخطيتم وكم مرة تجاوزتم؟ وهل وجدتم السلام في التخطي، أم أن السلام يكمن في التجاوز؟