في عزلتي الصامتة،،! أفكر في اللحظات العادية التي تمر دون أن يلاحظها أحد، أجد فيها سرًا يدركه من عرف الصمود. العظمة ليست في الإنجازات الظاهرة، بل في القدرة على الوقوف مجددًا رغم كل ما يثقل الروح.

واجهت مرات عديدة ذلك الفراغ، ذلك الشعور بالعدم الذي يطغى على اليقين. ومع ذلك اخترت النهوض! حتى عندما كان قلبي على وشك الانكسار. تلك اللحظات البسيطة تحمل شجاعة عظيمة، حيث يظهر الإنسان في أقصى قوته عندما يبدو ضعيفًا.

الحكمة، كما تعلمت تتسلل عبر الألم! وتترك بصماتها فينا. أن أسعى كل يوم لأكون أفضل هو فعل من أفعال البطولة الصامتة، في الخطوات الصغيرة/ في التكرار الهادئ/ تكمن عظمة لا يدركها إلا من واجه الحياة بكل تحدياتها.

أين يكمن السلام !

إن الإنسان في صراعه الأزلي مع ذاته ومع العالم من حوله، يجد نفسه في مواجهة خيارين دائمين التجاوز والتخطي. وهذان ليسا مترادفين كما قد يظن البعض! بل هما جوهران مختلفان ينبعان من أعماق النفس الإنسانية.

التخطي يا أعزّاء هو الفعل الذي نقوم به حين نجد أنفسنا أمام حاجز يبدو لنا أنه لا يمكن تجاوزه، فنكسره بعنف..! مدفوعين بضرورة البقاء أو تحقيق هدف ما. إنه فعل يحكمه العقل والظروف، ولكن ما أثقل هذا الحمل الذي نلقيه على ضمائرنا حين نتخطى شيئًا كان مقدسًا أو محرمًا! فالتخطي لا يخلو من شعور بالذنب، من الندم الذي يتسرب إلى نفوسنا بعد أن نحقق ما ظننا أنه خلاص.

أما التجاوز! فهو أسمى وأرقى… إنه التحرر من قيود النفس، من الأوهام التي تسجن أرواحنا التجاوز هو الصعود، هو الارتقاء فوق العالم المادي إلى مستوى أعلى من الفهم والقبول. التجاوز هو النظر إلى الأمور بعين الروح لا بعين الجسد. إنه السمو الذي نراه في أليوشا كارامازوف ذلك النور الداخلي الذي يقوده إلى الإيمان بالحب والرحمة رغم كل الشرور.

وفي هذا التفريق، أرى أن التخطي قد يؤدي إلى السقوط/ إلى الغرق في وحل الأخطاء، بينما التجاوز يرفعنا إلى آفاق أرحب، إلى الحرية الحقيقية و ما أشد صعوبة التجاوز! فهو يتطلب من الإنسان أن يتخلى عن ذاته، عن كبريائه، ليصل إلى الحقيقة.

فلتتأملوا أيها الأعزّاء في حياتكم كم مرة تخطيتم وكم مرة تجاوزتم؟ وهل وجدتم السلام في التخطي، أم أن السلام يكمن في التجاوز؟

أثر لا يُنسى ١

من أعماق نفسي المتأملة والرافضة لكل ما يثقل الروح …! في عالم يمتلئ بالأصوات والآراء لطالما شعرت بأن النقد، سواء كان بنّاءً أو عكس ذلك، يحمل معه وزنًا أثقل مما يمكن لروحي تحمله. لا أقول ذلك بدافع التذمر، وإنما هو شعور عميق يرافقني منذ زمن بعيد، ربما منذ الطفولة التي لم تخلُ من التعليقات والتحليلات التي علّمتني أن أتجنب أي شكل من أشكال النقد.

لطالما كنت أرى أن الكلمات، وإن قيلت بحسن نية، تملك قوة يصعب محوها. إنها تترك بصماتها على الروح، تتراكم ببطء حتى يصبح من الصعب تجاهلها. بالنسبة لي، النقد ليس مجرد كلمات تُقال وتنتهي..! إنها لحظة تعيدني إلى ذلك الطفل الصغير الذي كان يحاول جاهدًا إرضاء الجميع، دون أن يجد سبيلًا إلى الراحة.

ربما لهذا السبب لم أستطع ولن أستطيع، التعايش مع النقد! شعوري تجاهه ليس سوى انعكاس لتجربة طويلة جعلتني أراه كجدارٍ باردٍ يقف بيني وبين إحساسي بالسلام..! حتى عندما يُقال لي إن النقد يُقصد به البنّاء، لا أجد نفسي أراه كذلك. لأن البناء الذي يأتي مصحوبًا بالألم، ليس بناءً أبحث عنه أو أحتاجه.

قد يكون الحل بالنسبة لي هو الابتعاد عن كل ما يُحتمل أن يُطلق كلمات نقدية. ربما هو اختيار البقاء في مساحة من الهدوء، حيث لا تحتاج روحي إلى الدفاع عن نفسها أو تفسير أسبابها.

وفي نهاية الأمر، لكل منا طريقته في التعايش مع العالم./ أما أنا، فقد اخترت طريق السلام مع نفسي، ولو كان ذلك يعني الابتعاد عن مواجهة النقد تمامًا.

تزييف !

ليس هناك ما يبعث على التأمل أكثر من مراقبة مشاهد العلاقات الاجتماعية، حيث تُنسج الأحاديث ببراعة، وتزدان المجاملات بنعومة وكأنها قطع من حرير وبينما تتكرر اللقاءات وتُسدل ابتسامات ودودة على المشهد، يظل القلب يحوي سرًّا دفينًا وهو حب الانعزال والشوق إلى لحظات من الهدوء! بعيدًا عن صخب الناس.

ففي حين أن الجميع يؤدون دورهم الاجتماعي بإتقان! يُخفي البعض رغبة خفية في الابتعاد/ في الانسحاب من مسرح الحياة الاجتماعية؛ ليعودوا إلى زواياهم الخاصة، تلك الزوايا التي تمنحهم الشعور بالسلام..! وهذا التزييف -إن صح التعبير- ليس اختيارًا حرًّا بقدر ما هو استجابة لعادات أرست تقاليد صارمة! حيث يتوقع من الجميع المشاركة والاندماج حتى وإن لم تشعر قلوبهم بالراحة.

ولعل المجاملات التي تُلقى بعناية هي درع يتيح لهم العبور بسلام بين مجتمعات باتت تعجُّ بما لا يُقال وما يُقال ! من أجل المجاملة… ومع كل لقاء يزداد الشوق إلى الانعزال، حيث يتعافى القلب بعيدًا عن أضواء المناسبات المتكررة. فعلى هامش المجالس يكون الاشتياق للهدوء حاضرًا، يكاد يُلمس في النظرات الخافتة والكلمات المنتقاة بعناية، تلك التي تعبر عن قلق صامت ورغبة في البقاء بعيدًا عن الضجيج.

ولربما، إن أتيحت لحظات من الاعتراف بأهمية العزلة! لكانت الحياة أكثر بساطة… والمجاملات أقل ضغطًا، ولشعر القلب بارتياح، بعيدًا عن ابتسامات ليست إلا جزءًا من دور اجتماعي مكتوب بعناية.

توتّر !

كثيرًا ما نعيش حياتنا وسط خيوط التوتر! نحتمل عبئًا ثقيلًا على كواهلنا، يتسرب إلى أرواحنا كضبابٍ رمادي يغشى البصيرة ويقيد الأنفاس توترٌ ينشأ في أغلبه من ذلك الصراع الداخلي المستمر…! الصراع بين ما نريد فعله وما نُجبر على فعله..! بين الواقع الذي نحياه والأحلام التي تضغط علينا و تذكّرنا بما لم نحققه وما نخشى ألا نحققه أبدًا.

و للتخفيف من وطأة هذا التوتر.. هي إدراكه، فهم هذا العبء كرفيقٍ غير مرغوب فيه لكنه ملازم والاعتراف بوجوده بصدقٍ دون هرب أو إنكار.. حين تقبل وجود هذا الهمّ، تتغير نظرته من عدوٍ مستمرّ إلى رفيقٍ مؤقت. وكأنك بتسليمك له تكفّ عن مجابهته وتبدأ في محاورته وهذا كما يقولون دائمًا يخفف من ثقله أكثر مما نتخيل.

ثم هناك تلك اللحظات التي يجب فيها للإنسان أن يتخلى عن محاولة السيطرة على كل شيء! أن يمنح نفسه إذنًا بسيطًا ليكون إنسانًا متعبًا، متوتّرًا في هذه المساحة التي يُنشئها لنفسه… تبدأ نفسه المرهقة بالتنفس مجددًا كعصفور خرج للتو من قفصه الحديدي.

ثمّة شيءٌ سحريّ في السير وحيدًا ! فقط أنت وأفكارك والطريق الممتد أمامك.. بعض الناس يسيرون وهم يفرغون التوتر بين خطواتهم/ بعضهم يكتب/ ينقل أحاسيسه إلى ورقةٍ كأنما يرمي فيها أثقاله ويتركها تسكن هناك بعيدًا عن عقله/ والقراءة القراءة ذلك الملاذ الساكن كل سطرٍ يُقرؤه يخفف شيئًا من وطأة الأيام يأخذنا بعيدًا إلى عالمٍ آخر حيث الأبطال يعيشون توترات تشبه توتراتنا وآلامًا نكاد نشاركهم فيها.

ولا بأس أن تكون إنسانًا ضعيفًا أحيانًا بل إن الإنسان في ضعفه يكتشف جزءًا جديدًا من قوته. وأخيرًا… حينما تأوي إلى فراشك في نهاية كل يوم تذكر أن ما تعجز عن فعله الآن قد يسهل في الغد، وأن الراحة ليست عيبًا ولا هروبًا!! بل هي توازنٌ ضروريّ لنفسٍ تنهكها الحياة وتشتاق إلى لحظة سكينة .